من وحي التـراث

 

للدكتور عباس الجراري

 

مطبعة الأمنية – الرباط عان 1971

 

المقدمة

 

بسم الله الرحمان الرحيم

 

                  هذه مباحث قصيرة تدور كلها حول موضوع شغل الفكر العربي منذ سنوات غير قليلة ولا يزال، وبدأ يشغل الفكر المغربي في هذه الأيام، وإن لم ينظر إليه بعد بما يقتضي من جد وتبصر ليحسم فيه ويتخذ منه موقفا واضحا ونهائيا، وأعني به موضوع التراث.

       

وهي مكتوبة في بعضها – ومنشورة أيضا – في أوائل العشر سنوات المنصرمة، وكنت ما أزال لأول عهدي بالكتابة والنشر، كما يتضح من الترتيب التاريخي الذي نسقتها عليه.

 

وقد حفزني إلى جمعها في كتاب إلحاح كثير من الإخوان على أن أنشر الأحاديث التي كنت ألقي في الإذاعة حول آفاق التراث الشعبي، وكذلك رغبتي في أن ألفت النظر إلى أهمية الموضوع وخطورته، عسى الدارسون والمسؤولون عن الفكر في بلادنا أن يعيروه ما هو جدير به من الاهتمام والبحث، حتى ينتهوا فيه إلى رأي علمي وموضوعي بعيد عن التحمس المتطرف لقبول التراث أو رفضه جملة وتفصيلا، ومتفق مع ما تتطلبه المعركة التي نخوض أو علينا أن نخوض في سبيل التحرر الكامل.

 

إننا نعيش في صراع حضاري ونزاع ثقافي نعاني في خضمهما من ازدواجية تمس جميع الميادين وعلى مختلف المستويات، ومنها التراث الذي نبدو فيه موزعين بين تراثنا والتراث الغربي، وغير قادرين على تحديد موقفنا من كلا التيارين، أو تحقيق الوحدة بينهما، لأننا لم نهضم لا هذا ولا ذاك، ولأننا مجرد مقلدين سواء حين نميل الميل كله لجانب أو حين نعارض كل المعارضة، ولأننا – من الصراع الذي يدور فينا وحولنا – لم نأخذ بعد مكاننا في وضوح وواقعية وعن وعي وابتكار. والسبب أننا نعاني أزمة توتر نحن فيها مفصولون عن جذورنا، ومجردون من القدرة على التجاوب، سواء مع ما عندنا أو عند الآخرين، مما جعلنا لا نستطيع تحديد الأبعاد الخلفية والأمامية، لنتخذ على ضوئها مركز الانطلاق الذي يتيح لنا التوازن ويضمن الوصول إلى الهدف دون تعثر أو اصطدام. ومع ذلك فقد تكون هذه الأزمة نفسها دليل حركة حيوية ومقياس تطلع إيجابي إذا هي أفضت في النهاية إلى العمل الثوري البناء وليس إلى مجرد الرفض والتمرد.

 

إن النظر في التراث لا يعني أن ننغلق على أنفسنا، ونغمض أعيننا، وننصاع للماضي والقدر، وللتبعية والتقليد، ونثبت جامدين حيث نحن، دون أن نحكم تجاربنا وتفكيرنا وواقعنا وما يعتمل فيه وفي نفوسنا من صراع، بل يعني أن ندرسه ونبحث فيه للكشف عن روح الأصالة  في أمتنا، من أجل متابعة مسار التقدم الذي تحتمه حركة التاريخ الدائبة، ومن أجل تهئ انطلاقة متفتحة يلتحم فيها التراث بتأثيره على معركة التغير مع المكتسبات الجديدة بفعاليتها المبدعة الخلاقة. والأصالة هي مجموع مقومات الذات القومية التي لا تعني في شكلها إطارا طبقيا تمحى منه الجماهير، ولا تتعارض في جوهرها مع المضامين الإنسانية الأممية. وهي مقومات قابلة للتطور، لا يمكن بحال أن تكون سدا منيعا دون تيار النمو والازدهار.

 

وينبغي حين نتحدث عن التراث، ألا نفعل ذلك على اعتبار أن هذا التراث كامل ومقدس لا يمكن مناقشته، بل على أساس من المنهجية العلمية القائمة على التحليل والنقد، بقصد البحث عن الجانب القابل للتطور والتكيف مع الواقع لتغيير بنياته،  وبهدف فتح آفاق للمستقبل وبث الأمل وتقويته في النفوس، والإلقاء بشعاع من نور على الطريق، وإثارة الجماهير للعمل، أي بالتنقيب في التراث على كل ما هو بناء وتقدمي ليصبح عنصرا إيجابيا قادرا على مواكبة معركة التحول وإمدادها بقوة وفعالية.

 

ونحن بهذا نرفض تقديس التراث والتمسك المجرد به، وهو الاتجاه الذي تدعو له الرجعية في بلادنا لتسخيره عكس طبيعته التجددية وروح العراقة والأصالة فيه، لا ترمي منه إلى غير عرقلة ناموس التقدم، وشل حركتنا وشدنا إلى قيود تلصقنا بالتخلف الذي نعاني منه في جميع أنماطه وأشكاله، والذي تتضاعف معاناتنا منه يوما بعد يوم. وهي بذلك تستغل التقاليد البالية والخرافات والأوهام، تلبسها لباس الدين، تدسها عليه وتقيم لها تفسيرات خاطئة لا تريد من تثبيتها غير تجريدنا من الحرية والإرادة والمسؤولية، وغير فرض أوضاع فاسدة علينا، والإجبار على الإيمان بها وقبولها في قناعة ورضى باعتبارها قدرا محتوما لا حق لنا في مراجعته أو تغييره.

 

وهذا ما يجعل شعار " التراث" ذا مفهومين متضادين في الموقف والهدف، أحدهما يدعو للتشبث بالتراث وتقديسه والمحافظة عليه حتى يحول دون التفتح و النمو ويكون سلاحا ضد قوى التقدمية. والثاني يدعـو إلى تحليله ونقـده دون أي حرج، والأخذ منه إن وجدنا فيه ما يمكن أن يقوي خطانا في مسيرتنا عبر التاريخ الذي نصنع للحاضر والمستقبل باعتبار الارتباط المصيري لمختلف حلقاته، أو رفضه إن وجدنا فيه غير ذلك. وهو الاتجاه الذي أردت من هذه المباحث العجالية أن أثير الانتباه إليه، وهي ليست غير محاولة أولية للنظر في تراثنا وتفسير بعض ظواهره حتى ما بدا منها في النهاية سلبيا يعتمد التجريد والتغييب. ولم أقصد منها إلى إعطاء آراء نهائية أو الخروج بأفكار قاطعة، وإنما قصدت إلى طرح القضية وشق الطريق لبحثها وإنارته بما يمكن أن يكون دليلا للسير.

 

وأرى واجبا أن أضيف أن القضية وقتية ومستعجلة، غير قابلة للتأجيل أو التمديد، لأن النظر فيها يفرض علينا بحكم ظروفنا الحالية الانتقالية التي ما زلنا نتلمس فيها ملامح ذاتيتنا الأصيلة ومعالم الطريق الذي نختار، أي أن الأمر متعلق بمرحلة نحن ملزمون بتحديدها للانتهاء منه داخل ما يقتضي من زمان، سواء بقبول التراث أو رفضه كلا أو بعضا. وإذا ما آل البحث بنا إلى الحل الأخير، فإن الرفض في هذه الحالة سيكون موضوعيا وعلميا، وليس كرفض الذين يتنكرون الآن للتراث لأنهم لا يعرفونه أو لا يرون منه غير جانب السلب والرجعية.

 

وأظنني في غنى عن القول بأن العالم – بما يجد فيه – لا ينتظر المتخلفي، وبأننا ضيعنا وقتا كثيرا لم نعمل فيه أي شيء، وما زلنا نضيع. وهل من دليل على ذلك أقطع من تقاعس القائمين على شؤون الخزائن والمكتبات في بلادنا، وعجزهم عن فهرستها طوال خمسة عشر عاما مرت منذ الاستقلال، في وقت يتشدق الجميع بما تزخر به من نفائس التراث وذخائره ؟

 

وإذا كنت أبديت اهتماما خاصا بالتراث الشعبي – كما لا شك سيلاحظ القارئ – فليس لأني أقلل من شأن التراث المدرسي، ولكن لأني أرى الناس عامة وخاصة لا يعيرونه أدنى اهتمام، وأكاد أقول لا يعترفون به وبقيمته. وهذا ما جعلني ألقي مزيدا من الضوء عليه، عساهم يلتفتون إليه. وليست هذه أول مرة أحاول ذلك، فقد سبق أن فعلت حين نشرت بحثا مفصلا عن القصيدة الزجلية، ولكن الصدى كان ضعيفا إن لم أقل غير موجود، ولعلي أن أنبه إلى أن الحديث عن التراث يحتم علينا ألا نغفل الجانب الذي صنعه الشعب وهو يصوغ الحضارة بقوة عقله وقلبه، ويكتب التاريخ بمداد عرقه ودمه. ولعلي أن أنبه كذلك إلى أن الكفاح من أجل رد اعتبار الشعب وإقرار سيادته لابد أن يكون مقرونا – إن لم يكن مسبوقا – بالاعتراف له بلغته وفكره للتقريب بينهما وبين اللغة والفكر المدرسيين، بالتأثر والتأثير المتبادلين، وفي محاولة لاجتياز الهوة العميقة الفاصلة بين ما هو شعبي وما هو مدرسي، والاعتراف له بكل ما أنتج عبر العصور والأجيال، لتحدد من خلال هذا الإنتاج حقيقة شخصيته ونفسيته ومدى قدراته وطاقاته وإمكان تفاعلها مع ما يخوض من نضال لإمداده وتصعيده.

 

                                                                الرباط 10 يناير 1971

عباس الجراري